الجمعة، ٩ ديسمبر ٢٠١١

ممدوح والجندي المجهول......(قصة قصيرة)





ملحوظة: تلك القصة مستوحاة من وقائع حقيقية ودروس تعلمتها، مع اختلاف الأشخاص والمكان، ولعل هناك كلمات ترددت فى حياتي، وضعتها هنا كما هي، مع الحدث، لكن تظل المعاني التي تستخلصها من القصة، هي خلاصة أعوام عايشتها وتألمت فبها وتعلمت.



وحقٌ على المتأمل المتعمق، صاحب التجربة أن يسطّر لها عنوانا آخر.......(((دموع المربي)))ـ



عرفته فى نهاية فترة المراهقة، وبداية اكتمال النضوج العقلي والجسماني، كان غريبا فريدا عن أي مربي ٍآخر، اختارني....واخترته.

علمني ورباني وأرشدني، ووهبني أغلي مايملك....علمه، وتناصحنا وتلاعبنا وتضاحكنا وتباذلنا وتهادينا، وتمنينا من الله أن يجعنا فى جنته.

كان يردد دائما جملة الخضر: إنك لن تستطيع معي صبرا، وكنت أردد أنا دوما: ستجدني صابرا ولا أعصي لك أمرا.
فى ذلك المسجد فى شمال (قطاع غزة) كنا نصلي، كنت أستيقظ فجري كل يوم فأجده فى الصف الأول، وعندما تواصينا بسهام السحر، كنت أستيقظ قبيل الفجر بدقائق، فأجده أيضا فى الصف الأول، كان دائما يسبقني، أو أنني كنت دائما متأخرا، حتي أني حسبته لا ينام الليل......إنه أستاذي ممدوح.

كان معلمي الأول، إلي أن ظهر ذلك الرجل الذي تحدثت عنه (غزة) كلها، رجلٌ ملثمٌ، يظهر قبيل المغرب كل يوم، ليكون له مع العدو صولات وجولات إلي منتصف الليل، وعندما اتهم العدو حركة (حماس)، بانتماء هذا الرجل لها، نفت تماما –على الرغم بأن هذا شرف لها- فزاد هذا الأمر غرابة، لأنه حقا لم يكن ينتمي لها، أو على الأقل كانت تلك التحركات والضربات من تخطيطه هو وحده.

تفجيرٌ هنا، وتفجير هناك، أسير مقيد خلف ذلك المسجد، ودبابة محترقة على الحدود، وكل يوم قصة بطولة....وحيدا، بلا تنظيم ولا مساعدة، أي رجل ذاك!!

كان ولعي به يظهر جليا فى كلامي عنه، وكثير ذكري له، خاصة أمام أستاذي ممدوح، وكان دائما مايردُّ الأمر إلي معنيً إيماني، أو مردود تربوي –كعادة المربين-  فكان يُشجعني على تلك العاطفة القوية، وكان يلمح وأحيانا يصرح، بأنه لن يصل إلي هذه المرتبة –يقصد جندنا المجهول- إلا من كان بينه وبين الله سرٌ عظيم، وكنت أعلم أنه يحاول أن يوظف الحدث، ليغرس فىّ شيئا بعينه، أو يبعث إلي بمعني ما، فكنت أومئ رأسي، وماداخله –أقصد رأسي- مشغول كل الشغل بذلك الجندي، فكم سمعت ذلك الكلام مرارا وتكرارا، انتظرت منه –أستاذي ممدوح- أن يعلمني كيف أكون مثله، كيف أطور قدراتي، كيف أحسّن من استخدام سلاحي، كيف أناور، لكنه لم يفعل، ربما.....ربما لأنه لا يحسن ذلك، أو ربما هكذا ظننت.

أما صاحبنا الملثم،فقد كان يلهمني ويفجر فى عروقي الرغبة فى الجهاد والاستشهاد، ولكم حاولت أن أقابله أن أكلمه، لكنني فشلت، إلي أن جاء ذلك اليوم.

رأيته يركض مسرعا بعد منتصف الليل، حاولت أن أستوقفه، لكني ما استطعت، فناديت عليه بقوة، فتوقف ونظر إلي نظرة غريبة، ثم رحل....

رجعت إلي أستاذي فجرا ذلك اليوم، لم أستطع الاستيقاظ  قبل الفجر ككل يوم، فقد كنت مشغولا بالجندي، مشغولا بمقابلته، وعندما انتهت الصلاة، سألت فعلمت أن أستاذي جاء مبكرا كالعادة، فجلست بين يديه، وقصصت عليه حالي أمس، كعادتي فى أن أقص له كل شئ، حتي خواطري وخلجاتي، فصمت طويلا، ثم رفع رأسه إليه وفي عينيه الدموع، وقال: إنما أخاف أن تفتن به ولدي، اصبر معي، وثق بي، وستجد فى نهاية طريقك معي مبتغاك.

لم أفهم شيئا، فقلت مستنكرا كلامه ودموعه: ماتقصد شيخي؟

فقال وصوته يهتز: ماتركتَ قيام الليل منذ أن تعاهدنا عليه إلا الليلة، وأخاف أن أسبر أغوارك، وأفسر لك مكنونات صدرك فتسئ فهمي، ثق بي ولا تنس أول كلماتي،  والأساس الذي بنيانه معا، حتي لو طلبت منك أن تنسي ذلك الجندي قليلا.
ثم تركني وذهب، ولم ينتظر مني إجابة، وقبل أن يذهب نظر إليّ نظرة طويلة ملئها الألم والأسي، وبقيت وحدي فى المسجد أفكر، وتضاربت الأفكار، لم أعد أفهم شيئا أليس هذا أستاذي الذي كان يحثني دائما على الجهاد، وتعاهدنا أن نستشهد سويا، أليس هذا هو من رباني وصنعني، أليس هذا هو من أخذ بيدي حين كنت أحبو، وأرشدني إلي علامات الطريق، ماباله اليوم تغير وتبدل، أين أنت أيها الجندي، ياليتك تلقاه فتردد له:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ** لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه ** فنحورنا بدمائنا تتخضبُ


ما أفعل الآن إلاهي، وما أصنع، إني عاجز عن التفكير، وظللت طوال اليوم أكلم نفسي، وأتعجب من أمري وحالي، وأذكر الجندي وبطولاته وصولاته وجوالته، وأذكر الأستاذ ومواقفه وكلماته وإرشاداته، وبقيت مستيقظا إلي نصف الليل، وسمعت رجلا يركض فى شارعنا، أنا أعرف هذا الركض، سمعته قبلا، فنظرت من شرفتي فإذ هو ذلك الجندي، نزلت مسرعا خلفه، رأيته فى نهاية الشارع، ثم.....ثم رأيت ذلك الانفجار، وانقبض قلبي، أيها الأوغاد، لقد توقعوا حركته القادمة، جريت إليه كالمجنون، داعيا الله أن يكون ذلك الانفجار من صنيعه، لكن مستحيل، إن الحدود لا تزال بعيدة،و......و رأيته مضرجا بالدماء، أعجزت الصدمة لساني، ونظرت له بذهول، مازال بتحرك، ما زاله فيه قلب ينبض، حاولت أن أحمله للمشفي، لكنه رفض، وقال لي فى صوت يشبه صوتا أعرفه: بل 

اجلس، إن جرحي عميق، وأنا ميت لا محالة...اجلس فإني أريدك.

وعلى قدر فرحتي بأنني تكلمت معه، على قدر ما كان ألمي عميقا، لأننا سنفقد هذا الرجل الذي تكلمت عنه فلسطين كلها، وعجزت مخابرات العالم كله أن تعرفه، لمده ثلاثة أعوام كاملة.

حملته علي صدري، ودمه ينزف بغزارة، فقال لي: لعلك الآن فهمتني...

!!!!!!!!!!!!!!!!!!

أي غموض هذا، همست بصوت خفيض: ما تقصد أخي؟؟

فقال بصوت مبحوح: يالله......ولدي!! ألم تعرفني بعد، أنا ممدوح.

وكانت تلك آخر جملة أتوقعها فى حياتي، تضاربت بداخلي المشاعر تماما، وتوقف عقلي لحظات عن التفكير، وشّلت جميع حواسي، ولم أعد أدرك أي شئ من حولي، إلا ذلك الشلال من الدموع الذي انهمر من عيني، واسترجعت أعواما من الذكريات فى ثواني، وتذكرت جملته: إنك لن تستطيع معي صبرا، وعجبت له كيف يركض ويجهد طوال الليل، ثم يرجع ليصلي قبل القجر بساعات، وتذكرت نظرته الأخيرة.....الآن فقط فهمتها، وتمنيت لو تعلق لي المشانيق لأني أسأت الظن به، لكن.....لكن لماذا، لماذا فعل كل هذا.
هكذا صرخ قلبي، وصرخت شفتاي، فابتسم ابتسامة حانية لعها تكون الأخيرة وقال: ولدي.....إن طريق التربية بطئ طويل يحتاج إلي صبر مضني وتحمل غير مسبوق، لكنه مضمون معروف نتائجه، ولست ألوم عليك فى شئ، كلوم الخضر لسيدنا موسي، وأعلم أنك قد تسئ الظن بي أحيانا، وقد لا تفهمني أحيانا أخري، وقد تستنكر علىّ فعلا ما، لكنني أشهد الله أنك صدقا صبرت صبرا طويلا مريرا.....أعجزني وأذهلني، لكنني الآن نبأتك بتأويل أفعالي، ولم يبق لك عندي إلا درس أخير..

فقلت والقلب مكلوم والدمع مجروح: وما هو؟!

فقال: لكل رجل عظيم، سرٌ عظيم، وكلما ازدادت عظمة السر بينك وبين الله، كلما ازداد تأثيرك فى الناس، وامتدّ بامتداد الأزمان، وتعاقب الأجيال...

ثم صمت قليلا، وتابع ودمعه مختلط بدمائه: وأنت ياولدي، ستكون أعظم مني، فاجعل سرك أعظم من سري.
ثم نظر إلي نظرة فخر ورضا........ثم رحل.

وتركني فى هذه الحياة............وحدي، لايصاحبني شيئا، إلا حلما غرسه بداخلي، أتقوي به كلما ذكرته.


فعلمت أن السر فى الإخلاص.

هناك ٩ تعليقات:

  1. وتركني فى هذه الحياة وحدي، لايصاحبني شيئا، إلا حلماً غرسه بداخلي، أتقوي به كلما ذكرته.

    -رَحِمَهُ الله- وجعلكَ الله خير تلميذ لخير معلم .. !!

    ردحذف
    الردود
    1. نشهد والله انه كان خير تلميذ لمعلمه وخير معلم لنا ولكل من عرفه - رحمه الله - (احمد توفى من 3 ايام )

      حذف
  2. رحم الله احمد و جعل الفردوس الاعلى مسكنه و قراره

    ردحذف
  3. لكل رجل عظيم، سرٌ عظيم، وكلما ازدادت عظمة السر بينك وبين الله، كلما ازداد تأثيرك فى الناس، وامتدّ بامتداد الأزمان، وتعاقب الأجيال...

    ردحذف
  4. علمتني ان العظمة لا تاتي فقط بالاحلام....علمتنى ان الشهادة ليست فقط ف الميدان....علمتنى قيمة الحياة حنى ولو تبقى لى ايام
    فارشدتني لمعنى جملة(وما العيش الا عيش الاخرة)
    رحمك الله او نطلب الرحمة منه بعد خسارتنا لك
    علمتنى وعلمتنى رحم الله صاحب تلك الانامل التى كتبت تلك الكلمات

    ردحذف
  5. صدقا كلما كان السر بيننا وبين الله..!
    كان تأثيرنا في الناس عميق

    ردحذف
  6. سأدعو الله بأن يجعلني من الذين تركوا أثرا كالأثر الذي ترك شفيى...!

    ردحذف
  7. رحم الله الفارس أحمد شقير ورزقنا الله الإخلاص

    ردحذف